تابعنا على

الأحد، 18 يونيو 2017

السؤال: كيف يمكن إثبات وجود الله مع عدم اكتشافنا كلّ أسرار العالم؟! أليست هذه طفرة مرفوضة؟( اضغط هنا)


 السؤال: كيف تجيبون على الإشكال القائل بأنّنا لم نستقرئ كلّ أسرار العالم علميّاً، ممّا يلزم عدم تماميّة الأدلّة على وجود الخالق, فما هذه القفزة المنطقيّة أو الفلسفيّة التي تثبت وجود الصانع في وقت لم تكتمل لدينا كلّ أسرار الكون علميّاً؟!

الجواب: يمكنني التعليق على الإشكاليّة المثارة أعلاه بملاحظتين متواضعتين، أو فلنقل: بتساؤلين بسيطين:

الملاحظة الأولى: تفترض هذه الإشكاليّة أنّه لا سبيل لإثبات وجود الله إلا من خلال المعرفة الكونيّة التفصيليّة لأسرار الطبيعة، وهذه مصادرة على الفلاسفة ومحاولة للالتفاف عليهم؛ إذ العلماء والفلاسفة (المسلمون وغيرهم) بمدارسهم المختلفة، وكذلك بعض علماء الكلام، لم يثبتوا الله عبر طريق البحث في العالم فقط، بل لديهم سبلٌ أخرى لإثبات الباري تعالى غير معرفة أسرار الكون، مثل برهان الصدّيقين بصورته المتأخّرة وغير ذلك، فإذا صحّت الإشكاليّة أعلاه فهي تُربك الأدلّة التي تُثبت الله سبحانه من خلال معرفة الكون وأسراره، ولكنّها لا تربك الأدلّة التي تنطلق من غير هذا السبيل، فلابدّ من إشكاليّات أخرى لإرباك تلك الأدلّة.

وكثيرٌ من الناس ـ لاسيما الذين يعتقدون بأنّ معرفة الله لا تكون إلا عبر العلوم الطبيعيّة ـ يشعرون بأنّ العلم له سطوة على موضوع معرفة الله أكثر من الفلسفة والبحث التحليلي، وهذه نقطة سبق أن ألمحت إليها وعلّقت عليها؛ ولهذا تجد أنّ البحث حول الله في الجدل القائم اليوم بين الإيمان والإلحاد يرتكز بشكل كبير جداً على مسألة بداية الكون، وكأنّنا لو اكتشفنا بداية الكون فإنّ قضيّة الله سوف تُحسم نهائيّاً، وإلا فنحن لن نحسم مسألة وجود الله أبداً، مع أنّ الكثير من فلاسفة العالم لا ينطلقون لمعرفة الله من بداية الكون، بل لا يجدون أيّ حرج في أن يكون العالم قديماً لا أوّل له ولا آخر ولا نهاية زمانية ولا مكانيّة له، بل قد دافع بعض الفلاسفة الإلهيّين ـ في مقابل المتكلّمين ـ عن هذه النظرية دون أن يشعروا بحرج تجاه مسألة الله في الفكر الديني؛ لأنّ الفلاسفة غالباً ما يعتمدون على واقعيّة الكون المعاصرة، لا على نقطة بدايته السابقة، فلتُراجع أدلّتهم بتأنٍّ أكبر لفهم هذه القضيّة التي أشرنا إليها مراراً. وقد رأينا بعض الناس الذين لم يسبق لهم مراجعة أدلّة الفلاسفة الأخرى يصرّون في الوقت عينه على حصر اكتشاف قضية الله من خلال زاوية واحدة فقط، هي زاوية العلوم الطبيعية، فقد حكموا على مختلف أدلّة الفلاسفة حتى قبل أن يقرؤوها، أو حكموا ببطلانها؛ لأنّ نمطها لا ينسجم مع طريقة تعامل العلوم الطبيعيّة، وهذه ذهنية تتخذ موقفاً مسبقاً من الفكر الآخر، ولا أجدها منطقيّة أو متحرّرةً بالشكل المطلوب، فالمفترض أن نأخذ جميع أدلّة الفلاسفة بنظرة واحدة دون موقف مسبق ودون حساسية حتى من لغتهم، ثم الحكم عليها بطريقة علميّة، والمؤسف أنّ ثقافتنا الشعبيّة تعتبر الفلسفة عبثاً ولقلقة لسان، ولهذا فإنّها عندما تسمع بدليل فلسفي فهي تشعر مسبقاً بعبثية جهود الفلاسفة، مع أنّ الفلسفة فيها ما هو عبثي ومن نوع الجدل الذي لا ينتهي، وفيها أيضاً الكثير من الأفكار الممتازة، ولولا الفلسفة لم تصل الحضارة الغربية إلى ما وصلت إليه الآن، فليراجع تاريخ المعرفة لنتعرّف على العلاقة الجدلية الممتازة بين الفلسفة والعلوم في التاريخ الغربي وإلى يومنا هذا، ونحن نتمنّى أن يتطوّر الدرس الفلسفي والعلمي في بلادنا ليتعاونا على معرفة الحقيقة كلّ من موقعه وزاويته ومساحة عمله.

الملاحظة الثانية: إنّ الطريقة التي تعتمدها الإشكاليّة أعلاه غير صحيحة وأخمّن أنّه لا يعمل بها أحد على الإطلاق حتى في العلوم الطبيعيّة، فهل يصحّ لنا أن نقول بأنّ أيّ نظريّة أو رأي علمي عام أو خاص في كلّ العلوم الطبيعية هي باطلة ولا يمكن إثباتها؛ لأنّنا لم نكتشف الكون بعد بكلّ امتداداته وتأثيراته المتبادلة على بعضه، فلعلّ أخذ حبّة البنادول وتأثيرها على رفع حالة الصداع عند الإنسان مرهون بتأثير كوكبٍ يقع خارج مجرّة درب التبانة، ونحن لا نعرف، ولهذا لا نجد أنّ حبة البنادول تؤثّر في بعض الأحيان؟!

إنّ أيّ نظرية أو تجربة يمكن أن تضع يدك عليها، يمكنك تفسيرها بافتراضات لا متناهية آخذاً بعين الاعتبار عدم وصولنا إلى اكتشاف كلّ أسرار الجسد الإنساني، فضلاً عن عدم اكتشافنا تمام أسرار الكون.. فلماذا لا نرتبك علميّاً في نظريّاتنا وكشوفاتنا، كما تريدنا الإشكاليّةُ أعلاه أن نرتبك في قضيّة الله وارتباطها بالعالم؟

السبب هو أنّ العالم الطبيعي عندما يأخذ فرضيّات بعين الاعتبار، فهو يلاحظ ـ من موقع خبرته ـ الفرضيات التي تملك إمكانيّات علميّة، وكلّما كان العالم خبيراً بالفرضيات الممكنة وقوعاً كان بحثه أكثر شموليّة وقوّة، أمّا لو أراد أن يأخذ فرضيّات مفتوحة على المطلق الذي لا نهاية له، فإنّه من الصعب بعد ذلك تكوين أيّ فكرة علميّة؛ إذ سيصبح ذلك مساوياً للشكّ في كلّ العلوم على الإطلاق، هذا في الطبيعيات، فما بالك بالعلوم الإنسانيّة المفتوحة بطبعها على فرضيات أكثر. هل اكتشف العلم تمام أسرار جسد الإنسان حتى يدلي بدلوه في مجال الطبّ وأمثاله؟! هل اكتشف العلم تمام أسرار البيولوجيا حتى يقدّم نظريات وقوانين علميّة نافعة في هذا المضمار؟! هل اكتشف مؤرّخٌ ما كلّ حقائق التاريخ وأسراره وما وقع في غابر الأزمنة حتى يدّعي ثبوت قضيّة تاريخيّة ولو واحدة؟! فهل يعرف كلّ الحقائق المحيطة بهذه القضيّة التاريخيّة؟!

علاء
إنّ القضيّة لا تتصل بمعرفتنا بتمام أسرار الكون، بل تتصل بمعرفتنا بالأمور الكونيّة التي تتعلّق جذرياً بموضوع خالق الكون، وعلينا تمييز هذه الأمور، فهل معرفتنا بمقدار طول جناح البعوضة له دور في معرفتنا بخالق الكون أو لا؟ يجب أن أحدّد مسبقاً أيّ الأمور المتصلة بمعرفة الكون ذات صلة مُتَرَقَّبة بموضوع علّة هذا الكون وسبب وجوده. هذه هي الطريقة المرعيّة الإجراء في مختلف العلوم.

وكما أنّ العلوم تنطلق مما يتوفّر لها من معلومات ـ مع عدم اكتشافها كلّ حقائق العالم ـ فتصل إلى يقين، ما المانع أنّ ينطلق الفيلسوف مما توفّر له من معلومات حول العالم والكون فيجد هذا المقدار من المعلومات يؤهّله لتكوين دليل علمي موصل لليقين، فيصل بالفعل إلى اليقين؟! فالمهم دراسة دليله العلمي هنا.

كما أنّ الفيلسوف ينطلق في بعض الأحيان من حصر الفرضيات ثم يقوم بتحليلها لترجيح فرضية على أخرى، وطريقة حصر الفرضيات ضمن مربعات محدّدة من الطرق التي تنفع الفيلسوف حتى لو لم يتعرّف على كلّ أسرار الكون، وهي الطريقة المعروفة عند المناطقة بطريقة السبر والتقسيم، وإن كانت عمليّة الحصر ليست سهلة دائماً.

إنّ الشيء الذي نقوله دائماً هو: لماذا عندما نتعامل مع قضية مثل قضية الله نبالغ في التشدّد الشرطي، بينما نبدو أننا طبيعيين جداً عندما نريد إثبات قضيّة أخرى؟ وطبعاً أنا لا أتكلّم هنا عن موضوع صفات الله وأسمائه وأنّه مجرّد أو غير مجرّد، وأنّه عادل أو ظالم أو غير ذلك، فليس نظري إلى إثبات الصورة الدينية لفكرة الله، وأنّها صورة صائبة أو لا، فقد تكون خاطئةً، وقد يكون تطوّر الأنواع هو الحقيقة التي تُبطل صورة الخلق في وعي الأديان، وإنّما أقول ذلك؛ لأنّ كثيرين يربطون بين بحث الله ووجوده وبين صحّة الأديان وصورها النمطية عن الله والخلق، وهذا خلط بين الأوراق قد لا يكون متعمّداً، فقد اُثبت وجود الله ولكنّني أنفي كلّ الصور النمطيّة التي قدّمتها الأديان عن الله بما فيها عدله، فقد يثبت لي أنّ هناك خلف العالم خالقٌ لهذا العالم، ولكنّه جائر، إنّ كونه جائراً ينفي الصورة النمطيّة التي قدّمتها الأديان عنه، ولكنّه لا ينفي وجوده من الناحية الفلسفية والمنطقيّة. أرجو التأمّل مليّاً في هذه الفكرة، ففي حدود مطالعاتي المتواضعة في قضية الإيمان والإلحاد رأيت مزجاً عجيباً بين الملفّات، وأدعو هنا للتمييز بينها بقوّة، فنبحث أولاً ـ مثلاً ـ عن وجود قوّة خلف هذا العالم هي التي أوجدته، ثم نبحث في أنّ هذه القوّة هل هي مجرّدة أو ماديّة؟ عادلة أو ظالمة؟ أرسلت رسلاً أو لا؟..

إذن، فلست أتكلّم عن صفات الله وصورته النمطيّة في الأديان، بل في إثبات وجودٍ ما يرجع إليه العالم، وتسمّيه الأديان (الله). هذه الفكرة البسيطة أنت تصدق بآلاف النماذج المشابهة لها كلّ يوم، لكنّك عندما تأتي إلى فكرة الله تجد نفسك مرتبكاً بسبب موجة الشكوك التي تعصف بهذا الموضوع، رغم أنّه ـ في حدود معلوماتي البسيطة ـ لم يُقم أحد حتى الآن برهاناً علميّاً على عدم وجود الله، وكلّ ما هنالك هو أنّهم غير مقتنعين بصحّة الدليل على وجوده؛ فأنت عندما لا تجد دليلاً على تكذيب شخص؛ لأنّك رأيته في كلّ حياته صادقاً، ولكنّك عندما سمعت منه خبراً اليوم ولم يقم عندك دليل على بطلانه أو موجبٌ للتشكيك فيه، لا تريد تصديقه! يبدو الأمر غير منطقي، فنحن كلّ يوم ـ وأقولها ببساطة عالية؛ لأنني أعتقد أنّ قضية الله قضية بسيطة في نفسها، نعم موضوع صفات الله وقدسيّة الله مسألة معقّدّة ـ نطبّق نفس الأدلة التي مارسها الفلاسفة على كلّ قضايانا، رغم جهلنا بكثير من التفاصيل المتصلة بقضايانا اليومية، لكن عندما نأتي إلى قضيّة وجود سبب لوجود العالم فنحن نتوقّف! وهنا يقال: إنّ العلم اكتشف الانفجار الكبير، حسناً فلنفرض أنّ العلم اكتشف ماذا حصل في اللحظة الأولى، فهل أدرك العلم تمام الفرضيّات ورأى كلّ الملابسات حتى ينفي وجود الله؟! بالتأكيد لا، بل كلّ نظريّات الانفجار الكوني عبارة عن جهد علمي مخلوط تماماً بجهد فلسفي، حتى لو سمّي بالفيزياء النظريّة، فهو في واقعه نشاط فلسفي، ويجب أن نناقشه في جانبه الفلسفي أيضاً، ففي هذا الجانب لم يرَ العلماء بأعينهم شيئاً وإنّما حلّلوا.

وخلاصة فكرتي: إنّ الإشكاليّة أعلاه تسجّل على نوع من الأدلّة التي اُقيمت على وجود الله، لا على تمام أنواع الأدلّة، بل إنّ منهجها قد يكون في نفسه غير دقيق؛ إذ يسري إلى تمام العلوم تقريباً، ما لم يقل شخص بأنّني شكّاك ولا أؤمن بوجود معرفة يقينيّة أبداً، فهذا شيء آخر مختلف تماماً.

وأختم بالقول: لسنا نريد ممّن يؤمن بالله أن يثبته ليصل إلى اليقين الذي يستحيل معه البطلان، بل يكفينا أن يعترف بأنّ قضيّة من هذا النوع يمكن أن نصل إلى نتيجة فيها بمستوى النتائج العلميّة الطبيعيّة الأخرى. ناسياً ـ في هذه المرحلة ـ أيّ نتائج أخرى لقضيّة الإيمان بالله، من نوع الإلزامات الأخلاقيّة مع الله أو المنظومات الدينية التي أتت بها الأديان؛ لأنّ الإحساس بهذه المنظومات أو بتلك الالتزامات الأخلاقية مع الله قد يعيق ـ بالنسبة لبعض الناس ـ فرص حصول اليقين لديهم بوجود الله؛ بفعل ضغط النفس التي تشعر بأنّ ثبوت فرضيّة وجود الله قد يلحقها أشياء عمليّة غير مرغوبة له، فليلاحظ.
المجيب: الشيخ حيدر حب الله

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More