تابعنا على

الاثنين، 19 يونيو 2017

في ميزان العدل الإلهي الحلقة الاولى والثانية ( اضغط هنا)

الحلقة الاولى:
كيف ننظر إلى أعمال البر والخير ـ غير العبادية ـ التي يؤديها غير المسلمين؟ هل يثابون عليها؟ أم أنّها تذهب هباءً منثوراً؟ وعلى سبيل المثال فإن أعمالاً من قبيل مساعدة الفقراء والمحتاجين وتوفير الغذاء والدواء لهم، أو بناء المشافي والسدود والجسور والمدارس، أو من قبيل المكتشفات التي يهتدي إليها بعض هؤلاء ويكون فيها الخير الكثير للبشرية جمعاء، كالأدوية التي تخفف معاناة المعذبين والمرضى أو الكهرباء التي أنارت ظلمات الليالي، إلى غير ذلك من أعمال الخير أيعقل أن لا توضع في  سجل حسناتهم ولا يكون لها قيمة عند الله لمجرد أن هؤلاء من غير المسلمين؟ بينما يدخل الجنة بعض البطالين من المسلمين؟!

ميزان الحسن والقبح:

وقبل أن ندخل في الإجابة على هذا السؤال لا بدّ لنا أن نتعرف على الميزان في توصيف العمل بالحسن أو القبح؟ فهل يكفي في حسن العمل وخيريته أن تكون نتيجته في صالح الناس؟ أم أن دوافع العامل لها دور في التحسين والتقبيح؟

الظاهر أنه في الحكم بالحسن والقبح لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار نوايا الفاعل ودوافعه، ولا ينظر إلى ظاهر العمل ونتيجته فحسب، وإنما الميزان الصحيح أن ينظر إلى العمل والدوافع معاً، وهذا المعنى ـ مضافاً إلى أنه يستفاد من التعاليم والنصوص الإسلامية الكثيرة التي تؤكد على أنّ الإخلاص شرط في قبول الأعمال، أو أن الأعمال بالنيات وأن لكل امرأ ما نوى ـ فإنه ميزان عقلائي، ألا ترى لو أننا نظرنا ًإلى شخص يضرب يتيماً فإنا لو تعاملنا مع ظاهر الأمر فإننا لن نتردد بالحكم على عمله بالقبح، لكن لو اطلعنا على أن هذا الضرب هو بغرض التأديب لا التشفي والانتقام لغيّرنا رأينا وحكمنا على فعله بالحسن، ألا ترى في المقابل لو أننا رأينا شخصاً يهمّ بقتل إنسان مؤمن وقد أطلق النار أو السهام عليه فإننا سوف نصف عمله بالقبح حتى لو أن السهم أخطأ الهدف وأصاب شخصاً مجرماً مستحقاً للقتل؟ وفي ضوء ذلك فلو أننا أردنا تقييم المكتشفات التي قد يستفاد منها  في أعمال الخير كما يستفاد منها  في أعمال الشر، كما الحال في التقنية النووية مثلاً، فالذي يحدد الخير من الشر في هذا الاكتشاف هو جهة الاستخدام، هذا بالنسبة للاكتشاف، كاكتشاف، أما بالنظر إلى المكتشف والمخترع فإن الذي يحدد استحقاقه للمدح أو الذم هي دوافعه الكامنة وراء الاكتشاف، فإن هَدَف مكتشف الذرة إلى استخدامها في الأنشطة السلمية فإنه يستحق المدح والثناء، حتى لو استغلت استغلالاً سيئاً على خلاف ما هدف إليه المكتشف.

أصناف عمل الخير:

بعد هذه المقدمة نعود إلى الإجابة على السؤال المتقدم، فنقول: إن أعمال الخير التي يقوم بها الإنسان هي على عدة أنحاء:

الأول: أن يأتي بعمل الخير لوجه الله سبحانه ورجاء ثوابه، كما هو حال الكثير من أهل الخير الذين لا يريدون من العباد جزاءً ولا شكوراً، وإنما يتطلعون إلى رضوان الله ورحمته الواسعة.

ومقتضى العدل والإنصاف أن يتقبل الله هذا النحو من الأعمال حتى لو صدرت من غير المسلم، لا سيما بملاحظة ما ذكرناه سابقاً من أن نية القربة يمكن أن تتأتى من غير المسلم، وكيف يُخيِّب الله ظنون أو آمال عبد أجهد نفسه وأفنى عمره في عمل الخيرات ولا همّ له إلا رضا الله سبحانه؟!

النحو الثاني: أن يكون هدف العامل دنيوياً بحتاً، كتحصيل الربح المادي أو الشهرة بين الناس أو نحو ذلك، فهو لم يقم بهذا العمل أو الانجاز بهدف نيل رضوان الله والتقرب إليه ولا بهدف خدمة الناس والتخفيف من معاناتهم أو نحو ذلك من الأهداف السامية، وإنما هدفه دنيوي بحت، وفي هذه الحال قد يتحقق لهذا الإنسان ما هدف إليه من الربح أو الشهرة، وربما يستحسن أن نمدحه، لأننا في نهاية المطاف أفدنا من اختراعه وعمله، ولكنه لا يستحق الشكر أو الثناء لا علينا ولا على الله، بحيث إذا لم نمتدحه نحن نكون مستوجبين للذم وإذا لم يثبه الله كان مخلاً بالواجب فاعلاً للقبيح، والوجه في ذلك أن عمله لم يكن في سبيل الله ولا في سبيل عيال الله وعباده، "ولا شك أن كل طريق لا يؤدي إلا إلى غايته، فإذا لم يكن الله هو المقصود فإنه سوف لن ينتهي إلى الله"(العدل الإلهي 293). لقد كان غرضه هو الدنيا وقد وصل إلى غايته ومراده، نعم ربما يثاب هذا الشخص من ناحية أخرى، وهي أنه إذا ما كان عمله بدافع إعالة نفسه وعياله وكفّ وجهه عن الناس، فإنه يؤخر عند الله كما يستفاد من بعض الروايات، كما في قول الإمام الصادق(ع) ـ فيما روي عنه ـ : " الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله"(الكافي8/88).

عمل الخير لوجه الخير:

النحو الثالث: أن يكون هدف العامل هو صِرف خدمة الناس ومساعدتهم، فهو يعمل الخير للخير، لا لوجه الله ولا لهدف تجاري دنيوي، وهنا يمكن القول: إن هذا الشخص يستحق على الناس الثناء والشكر، لأنه منعم عليهم ومحسن إليهم، وشكر المنعم واجب عقلاً، قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}(الرحمن:60)، ولكن هل يستحق الثواب على الله لما قدّمه من خدمات لعباد الله، مع أنه لم ينو التقرب إليه تعالى؟

المعروف لدى علماء الكلام وغيرهم أن هذا الشخص لا يستحق على الله شيئاً، ويمكن توجيه قولهم هذا بأحد وجهين:

أولاً: أنه لا مقتضي لاستحقاقه الثواب، لأنه لم يقصد وجه الله ولم يتوجه إليه تعال ليستحق عليه شيئاً.

ثانياً: وجود المانع وهو النصوص التي تنص، إمّا على نفي الثواب لغير المؤمن، أو على أن الكفر يمحق العمل ويبطله.

ولكن يمكن التعليق على هذين الوجهين:

أما الوجه الأول: أنه لا مقتضي للثواب على أعمال الخير المشار إليها فهذا ما لا يمكن الجزم به، بل يمكن القول إنه مثاب ومأجور، بتقريب: أن الشخص الذي يعمل الخير لوجه الخير لا شك أنه يستحق في نظر العقل والعقلاء المدح والثناء لا سيما ممن كان عمله موجهاً إليهم واستفادوا منه، فكيف لا يستحق الثناء من خالق العباد وسيد العقلاء؟! ثم إن إعمال الخير التي يرّغبنا الله بها ويحثنا عليها، لا يريدها لنفسه، بل لخدمة عباده وعياله، لأنه غني عن أعمالنا ولا ينتفع منها بشيء، ولذا فإن عمل الخير ولو كان دافعه الوحيد  حب الخير هو محبوب لله سبحانه وتعالى، كما يستفاد من قوله(ص) ـ فيما روي عنه ـ : الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيته سروراً"(الكافي:2/164)، وقد مال الفقيه الكبير السيد كاظم اليزدي  إلى هذا الرأي، فرأى أن من الجائز أن يثيب الله على عمل الخير ولو لم يأت بها الفاعل لوجه الله، قال رحمه الله: "نعم ترتب الثواب موقوف على قصد القربة مع أنه يمكن أن يقال بترتبه على الأفعال الحسنة وإن لم يقصد بها وجه الله، فإن الفاعل لها يستحق المدح عند العقلاء وإن لم يقصد بفعله التقرب إلى الله، فلا يبعد أن يستحق من الله التفضل بالثواب، ويؤيده: ما في الأخبار المرّغبة من انتفاع الميت بولده الصالح، مع أنه لم يقصد القربة في طلبه، وإنما قصد لذة النفس بالمقاربة أو بتحصيل الأولاد"(العروة الوثقى:ج6/282)، ومال الشهيد مطهري رحمه الله أيضاً إلى هذا الرأي فقال: "من الممكن أن يقال: أنه لا ضرورة لوجود الحسن الفاعلي في قصد التقرب إلى الله، فإذا عمل شخص عمل خير بدافع وجدانه والرحمة المستولية على قلبه فذلك كافٍ ليتحقق لعلمه الحسن الفاعلي، ولا يهم حينئذ أن يكون الدافع هو الله أو الإنسانية"(العدل الإلهي 295).

أما الوجه الثاني وهو وجود المانع من قبول عمله، والمانع هو الكفر وعدم الإيمان، فإن الكفر مانع من قبول الأعمال أو محبط لها، قال تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقبعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوّفاه حسابه والله سريع الحساب}(النور:39)، وقال سبحانه في آية أخرى:{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد}(إبراهيم:18)، ومانعية الكفر من قبول الأعمال تستفاد أيضاً من السنة، فعن أبي عبد الله الصادق(ع): "لا يضر مع الإيمان عمل ولا ينفع مع الكفر عمل، ألا ترى أنه تعالى قال: وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلاّ أنهم كفروا بالله وبرسوله... وماتوا وهم كافرون"(الكافي2/464، الحديث:3و4)، إلى غير ذلك من النصوص التي تحتاج إلى متابعة تفصيلية.

 إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نسجل ملاحظة عامة على هذه النصوص وهو ما قد يعطينا مؤشراً على كيفية التعامل مع سائر النصوص، والملاحظة التي نود تسجيلها هنا هي أن العقل حاكم "أن الله سبحانه عادل، ومن عدله أن لا يكون المحسن والمسيء لديه سواء، بل للمسيء جزاؤه وللمحسن جزاؤه... واختصاراً: إن الإنسان مجزي بأعماله إن خيراً فخير، وإن شراًُ فشر، والكافر يستحق العقاب على كفره، وقد فعل الخير لوجه الله، فيستحق عليه الثواب ولكل عمل حساب..."(تفسير الكاشف2/212)، وفي ضوء هذا الحكم العقلي لا بدّ أن تُفسّر النصوص المذكورة، وذلك بأن يقال: إنها إما ناظرة إلى كفر الجحود والتمرد على الله، والمتمرد على الله لا يستحق عليه شيئاً حتى لو خدم الناس بجفون عينيه، وإنما له حق الشكر على من خدمهم وعمل لأجلهم، وإما أنها ناظرة إلى الأعمال التي يعملها هؤلاء لا لغرض إلهي أو إنساني وإنما لغرض دنيوي بحت (راجع تفسير الكاشف4/435).

وفي ضوء ذلك لا بدّ أن نفهم قوله تعالى" {إنما يتقبل الله من المتقين}(المائدة:30)، إذ ليس المراد به "أن الإنسان إذا عصى الله في شيء لا يقبل منه إذا أطاعه في شيء آخر وإلا لزم أن لا يتقبل إلا من المعصوم، وهذا يتنافى مع عدله وحكمته، وإنما المراد من الآية أن الله سبحانه لا يقبل إلا العمل الخالص من كل شائبة دنيوية، وأن من عمل لغير الله والخير يكله إلى من عمل له، وليس من شك أن من عمل الخير لوجه الخير والإنسانية فقد عمل لله، سواء أراد ذلك أم لم يرد، ومن عمل لله فأجره على الله" (تفسير الكاشف2/212).
----------------------------------------------------------------------------------------
الحلقة الثانية:
اتضح لنا من خلال ما بحثناه في الحلقة الأولى أن حرمان من يعمل الخير لوجه الخير من الثواب هو خلاف موازين العدل والإنصاف، ولا يمكن أن يرتكبه أي عاقل من بني الإنسان، فكيف بخالق العقلاء وسيدهم!

شواهد الكتاب والسنة:

وعلاوة على ما تقدم من عدم وجود مانع عقلاً وشرعاً من إثابة غير المسلم على عمل الخير وخدمة الإنسان، يمكن القول: إن ثمة شواهد من الكتاب والسنة على أن الله يجازي هؤلاء على أعمالهم الحسنة بالإحسان ويمنحهم الثواب، وقد أورد العلامة الشهيد مرتضى مطهري جملة من النصوص الروائية التي تصب في هذا الاتجاه، إلاّ أن غاية ما تدل عليه تلك النصوص هو تخفيف العذاب عن هؤلاء كرمى لأعمالهم الخيّرة، وذلك من قبيل ما رواه الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال بإسناده إلى علي بن يقطين قال: قال أبو الحسن موسى بن جعفر(ع) "إنه كان في بني إسرائيل رجل مؤمن وكان له جار كافر وكان يرفق ـ أي الكافر ـ بالمؤمن ويوليه المعروف في الدنيا، فلما أن مات الكافر بنى الله له بيتاً في النار من طين فكان يقيه حرها ويأتيه الرزق من غيرها، وقيل له هذا بما كنت تدخل على جارك المؤمن فلان بن فلان من الرفق وتوليه من المعروف في الدنيا"(ثواب الأعمال 169) إلى غيرها من الروايات التي أوردها الشهيد مطهري وهي بنفس المضمون"(العدل الإلهي ص:296).

إلاّ أن الأهم من تلك الروايات هو بعض النصوص القرآنية التي تشهد لمطلوبنا، وأهمية هذه الآيات لا تكمن في قوة سندها وقطعية صدورها عن الله فحسب، بل في قوّة مضمونها أيضاً، ومن هذه الآيات قوله تعالى:{إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون}(البقرة:62)، فالآية تنص على أن كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، سواء أكانوا من المسلمين أو النصارى أو اليهود أو الصائبة مأجورون عند الله، وليس فقط لا يعذبهم الله أو أنه يخفف عنهم العذاب، كما هو مدلول الرواية المتقدمة.

وقفات مع الآية:

ولا بدّ لنا أن نتوقف عند هذه الآية من جهتين:

أولاً: إنّ الآية من خلال توصيفها لـ"الذين آمنوا" بأنهم {من آمن بالله واليوم الآخر} تريد التأكيد على أن ميزان النجاة عند الله ليس في التظاهر أو مجرد التسميات، وإنما الميزان هو الإيمان الحقيقي المقرون بالعمل الصالح(راجع تفسير الميزان 1/192) وهو ما يؤكد الفكرة التي أشرنا إليها سابقاً من أن النجاة ترتكز على ركنين أساسيين: هما الإيمان والعمل الصالح، خلافاً لمن اكتفى بالإيمان وحده، أو بالعمل وحده.

وثانياً: إن تأكيد الآية على نجاة كل من آمن بالله واليوم الآخر ولو كان نصرانياً أو يهودياً أو صابئاً أثار في المقام شبهةً حاصلها: إن حمل على ظاهرها معناه أنه على يتعيّن اعتناق الإسلام، بل يمكن للإنسان أن يبقى على دينه أو يختار أي دين يريده، ومع ذلك فهو مأجور عند الله، شرط أن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحاً، وهذا الأمر بديهي البطلان بنظر هؤلاء، وهو ما دفع البعض كابن عباس إلى القول بأن الآية منسوخة بقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه}(آل عمران:85).

لكن الشيخ الطوسي رحمه الله ردّ على ادعاء النسخ واستبعده، "لأن النسخ لا يجوز أن يدخل في الخبر الذي يتضمن الوعيد، وإنما يجوز دخوله في طريقة الأحكام الشرعية التي يجوز تغييرها"(التبيان1/238)، على أن دعوى النسخ لا شاهد عليها.

وفي المقابل، فإن معظم المفسرين حملوا الآية على من اعتنق تلك الأديان قبل أن تنسخ بالإسلام، فمن آمن من أتباع تلك الديانات بالله واليوم الآخر وعمل بمقتضى شرعه فله أجره عند الله سبحانه(راجع على سبيل المثال: تفسير كنز الدقائق 1/263).

رأي في فهم الآية:

إلا أن بالإمكان إبقاء الآية على إطلاقها دون أن نبتلي بمحذور يصعب الالتزام به، وتوضيح ذلك: إن الآية الشريفة ليست بصدد إعطاء شرعية في البقاء على الأديان السابقة أو في حرية الانتماء إليها في زماننا هذا لمن عرف بالدين الجديد، وبعبارة أخرى: إن فكرة أنه ليس على الإنسان أن يتبع الإسلام حتى لو علم به ووصله صوت الدعوة، وإنما يكفيه للنجاة يوم القيامة الإيمان بالله والعمل الصالح حتى لو اعتنق بعد ذلك اليهودية أو النصرانية أو الصابئة لا نوافق عليها، بل هي مرفوضة في منطق القرآن نفسه، ولا يجوز لنا أن نكون تجزيئيين نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً، وعليه، فلا يصح التمسك بالآية المذكورة، للوصول إلى الاستنتاج المذكور، بعيداً عن السياق القرآني العام والذي يؤكد في العديد من آياته على ضرورة اعتناق الدين الجديد، من قبيل قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه}، بل لو لم يلزم اتباع النبي الجديد والالتزام برسالته لكان إرساله عبثاً ولغواً، إذ بالإمكان الاكتفاء ـ من قبل الله ـ بإرسال نبي واحد ودعوة الناس إلى اتّباع رسالته  مع فتح باب الاجتهاد لمواكبة المستجدات، دون حاجة إلى رسالات جديدة وشرائع جديدة!

إلا أن ذلك لا يعني أن نجعل الآية ناظرةً إلى الحكم بنجاة خصوص السابقين من أهل الشرائع السماوية، أي في الوقت الذي كانت فيه شرائعهم ماضية وغير منسوخة بالشريعة اللاحقة، ليكون مفاد الآية "إن كل أمة عملت في عصرها بما جاء به نبيها من تعاليم السماء وعملت صالحاً، فإنها ناجية ولا خوف على أفراد تلك الأمة ولا هم يحزنون"(الأمثل:1/251).

لا داعي ولا موجب لهذا التضييق، بل يمكن إبقاء الآية على إطلاقها الأزماني ـ كما يقول الأصوليون ـ أي نلتزم بشمولها لزماننا، ولكن يُقيَّد إطلاقها الأحوالي، بأن يقال: إنّ من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً  سواء أكان من المسلمين أو اليهود أو النصارى أو الصابئة فهو ناجٍ أكان من السابقين أو اللاحقين المعاصرين للنبي الجديد، شريطة عدم قيام الحجة عليه في أمر الدين الجديد، إما بأن لم يبلغه صوت الدعوة أو لم يحتمل صوابية الدين الجديد، وإلاّ تعيّن عليه اتباعه والعمل بشريعته ورسالته، كما هو واضح، فإن من قامت عليه الحجة ولم يتبعها يكون متمرداً ومستحقاً للإدانة عقلاً ونقلاً.

نوعية الثواب:

ويبقى السؤال أنه ما هي نوعية الثواب الذي يمنحه الله تعالى للأشخاص الذين عملوا الخير لوجه الخير وخدمة الإنسان؟

ذهب بنو نوبخت ـ وهم من قدامى متكلمي الشيعة ـ إلى أنّ ثوابهم يكون في الدنيا من خلال النعم التي يحيطهم الله بها والخيرات التي يغدقها عليهم أو من خلال ما يقيهم من صنوف الألم والعذاب، يقول الشيخ المفيد نقلاً عن بني نوبخت أنهم: "يزعمون أن كثيراً من الكفار بالله تعالى عارفون، ولله في أفعالٍ كثيرة مطيعون، وأنهم في الدنيا على ذلك يجازون ويثابون"(أوائل المقالات83).

ويميل الشهيد المطهري إلى أن ثوابهم أخروي، لكنه يخصصه إما برفع العذاب عنهم أو بتخفيفه فقط، يقول رحمه الله: و"من المتيقن أن الله سبحانه لا يترك هؤلاء العاملين لخدمة الإنسانية بدون أجر، وقد ورد في بعض الأحاديث أن المشركين من أمثال حاتم الطائي، إما أن لا يروا العذاب وإمّا أن يخفف عنهم من أجل أعمال الخير التي قاموا بها"(العدل الإلهي296).

أما الشيخ محمد جواد مغنية فإنه احتمل الأمرين معاً، أي الثواب الدنيوي والثواب الأخروي، ولم يجزم بطبيعة أو نوعية الثواب، وما اختاره هو الحق، لأن أمر الثواب ونوعيته وكميته هي بيد الله سبحانه دون سواه، ولا يحق لنا أن نتقوّل على الله ما لم يأتنا به سلطان مبين، يقول الشيخ مغنية رحمه الله:

"وليس من الضروري أن يكون جزاء المحسن غير المؤمن في الآخرة، فقد يكون في الدنيا بكشف الضر والبلوى، قال رسول الله(ص): "صنائع المعروف تقي مصارع السوء" (الكافي:4/29)، وأيضاً لا ينحصر جزاء الآخرة بالجنة، فقد يكون بتخفيف العذاب أو لا عذاب ولا ثواب، كما هي حال أهل الأعراف، واختصاراً ـ والكلام للشيخ مغنية ـ: إن الإنسان مجزي بأعماله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، والكافر يستحق العقاب على كفره، وقد فعل الخير لوجه الخير، فيستحق عليه الثواب، ولكل عمل حساب، أجل، نحن لا ندرك كنه الثواب الذي يثاب به المحسن غير المؤمن، ولا متى وأين؟ أفي الدنيا أو في الآخرة؟ إن هذا موكول إلى علم الله وحكمته، وتحديده بشيء معين مشاركة لله في علمه فليتق الله من يؤمن بالله (تفسير الكاشف 1/212)..
الشيخ حسين الخشن

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More