تابعنا على

الأحد، 18 يونيو 2017

السؤال: هل كشف العلوم الحديثة للقوانين والعلل في الطبيعة يلغي فكرة الله والحاجة إليه؟(اضغط هنا)


السؤال: إنّ الكثير من الأعمال العلميّة القائمة حالياً في المدرسة الغربيّة على وجه الخصوص, تروّج لمسألة إنكار وجود الله تعالى، استناداً إلى كشف العوامل الطبيعيّة, فهم يرون أنّ إدراك العوامل الطبيعية والأسباب الكونية والسنن هو وسيلة لدحض وإنكار وجود الله، بحيث لا يكون الإنسان بحاجة لإله يعبده طالما كشف عن هذه السنن, فهم بذلك خلقوا فجوةً كبيرة بين العلم والدين, فما هو رأي سماحتكم في مثل هكذا استقراء؟ هل ترون فعلاً في مجرّد كشف السنن ابتعاداً عن الله تعالى؟

الجواب: يوجد مستويان من الجواب هنا:


1 ـ تعرّض الفلاسفة والباحثون في مجال الفلسفة واللاهوت لهذا الموضوع منذ سنوات طويلة، وتحدّثوا ـ محقّين ـ عن أنّه لا يوجد أيّ ربط قهري أو ضروري بين الفتوحات العلميّة في اكتشاف سنن الطبيعة وقوانينها وأسباب الظواهر الكونية بمختلف أنواعها، وبين إنكار وجود الله تعالى، وذلك:



أ ـ إنّ هناك من يتصوّر دينيّاً أنّ أيّ ظاهرة تبدو من حولنا فإنّ سببها المباشر هو الله تعالى، بمعنى أنّ السبب المباشر لظهور هذا المرض الجلدي أو ذاك أو هذا العارض الصحّي أو ذاك هو الله، وفي هذه الحال عندما يقوم العلم باكتشاف الأسباب القريبة والعوامل المنتجة أو المساعدة على ظهور هذا المرض أو ذاك فإنّ فكرة الله سوف تغيب؛ لأنّ التصوّر كان يقوم على أنّ السبب وراء هذه الظاهرة مباشرةً هو الله، فإذا اكتشفنا السبب وأنّه مشكلة معيّنة في المعدة مثلاً فنكون بذلك قد نفينا الله تعالى، وكلّما ازدادت كشوفاتنا التي من هذا النوع زاد انحسار فكرة الله في فهم الطبيعة. إنّ بعض التصوّرات الشعبية عن الله يمكن أن تقوم على ذلك، ومن ثمّ فكلّما تقدّم العلم في اكتشاف الأسباب عنى ذلك انسحاب فكرة الله من الميدان.



إلا أنّ البحث الفلسفي والكلامي عند الاتجاهات الدينية قد بيّن ـ ومنذ قرون بعيدة ـ أنّ القضيّة ليست كذلك، فعندما نقول بأنّ الله هو سبب سعة رزقي أو ضيق الرزق الذي عرض عليّ، فهذا لا يعني أنّه السبب المباشر بالضرورة، بل يعني أنّ تمام الأسباب والمؤثرات المولّدة لهذه الظاهرة ترجع في نهايتها إلى الله تعالى أو يُعتبر الله محيطاً بها، ولهذا نجد بعض الفلاسفة يعبّرون عن الله بأنّه علّة العلل والسبب الأوّل والمحرّك الأول وغير ذلك من التعابير التي تنسجم مع وجود وسائط في النظام السببي في العالم، فالله يدير العالم بواسطة شبكة معقّدة للغاية من الأسباب والعلل والمحرّكات التي تنتهي حلقاتها به تعالى، إذا أردنا استخدام لغة الفلاسفة المشائين أو لغة الكثير من المتكلّمين المسلمين وغير المسلمين.



ولعلّ هذا هو الذي يفسّر إيمان الكثير من علماء الطبيعة حتى في العصر الحاضر بوجود الله تعالى؛ فهم لم يشعروا بأيّ تناقض بين الاكتشافات العلمية التي قدّمتها علومهم من الفيزياء والفلك والكيمياء والطبّ والأحياء وغيرها، وبين إيمانهم بوجود الله، بل إنّ هؤلاء اعتبروا أنّ تقدّم الاكتشافات العلميّة عزّز من فكرة وجود الله تعالى وأعاق إنكاره.



ب ـ إنّ الفلسفة الدينيّة لا تتعامل مع قضيّة الله من حيث بدايات الأشياء بالمعنى العلمي المعاصر، فنحن عندما ندرس ظاهرةً ما نخوض في منشئها لنعرف النقطة أو اللحظة الأولى لولادة هذه الظاهرة. والعلم يبرع بمختلف فروعه في هذا المجال أيضاً، ومن هذا النوع البحث عن سبب الكون من خلال بدايته، فبصرف النظر عن أنّ النظريات التي قيلت عن بداية الكون هل هي قطعيّة يقينية أو ظنون وتخمينات ونظريات غير حاسمة بعدُ، فإنّ العقل الإلحادي يتصوّر أنّ البحث عن الله يجب أن يكون عند نقطة بداية وجود الكون، فإذا اكتشفنا أنّ الكون وجد نتيجة انفجار كبير أو.. فهذا يعني أنّنا لم نرَ الله في لحظة البداية، ومن ثم فلنا كامل الحقّ في نفيه.



إنّ الفلسفة الدينية لا تتعامل مع الموضوع بهذه الطريقة أبداً، بل تعتبر هذا التعامل يعاني من خطأ منهجي كبير جداً؛ وذلك أنّ العلم من جهة لم يتصوّر إمكانية اكتشاف الله إلا عبر الطرق التي يمكن من خلالها اكتشاف كلّ العناصر الماديّة في الوجود؛ وهذا يعني أنّه افترض علاقة الله بالعالم علاقةً مادّية؛ فإذا لم يكتشف هذه العلاقة ـ كما يكتشف الكثير من العلاقات المادية بين الأشياء والظواهر ـ نفاها ورفضها، هذه نقطة مهمّة.



ولهذا تقوم الفلسفة الدينية على التعامل مع وجود الله بوصفه نوعاً من الفرضيّات التي لا تنحصر وسائل إثباتها ـ بالضرورة ـ بالطرق عينها التي نتعامل فيها مع الظواهر المادية عامّةً، وهذا ما يفتح على تنوّع وسائل الإثبات في قضيّة من هذا النوع، ويفرض على العلوم الطبيعيّة أن تُبدي مرونةً أكبر في هذا المضمار، تماماً كالفرق بين التعامل مع النظام الميكانيكي في المَرْكَبَات والآلات المصنوعة، وبين النفس الإنسانية في عوارضها السلوكيّة والباطنيّة، فطريقة التعامل ووسائل الإثبات وأنماط العلاج تختلف أحياناً بعض الشيء. هذه زاوية مركزية في الموضوع.



كما أنّ الفلسفة الدينيّة تقوم في تعاملها مع الله تعالى من خلال واقع الكون اليوم بصرف النظر عن نقطة البداية؛ لأنّ حاجة المعلول إلى العلّة لا تنطلق عندهم ـ ووفقاً لبراهينهم الفلسفيّة ـ من حاجة مؤقّتة، بل هي حاجة دائمة، بمعنى أنّ المعلول بحاجة لعلّته في حدوثه وفي بقائه، فإذا أثبتنا أنّ الكون بحاجة إلى علّة، وهذا بنفسه قد اُخضع في البحث الفلسفي لدراسات عديدة، فهذا يعني أنّ نفس وجوده الآن يفرض فكرة الله، سواء كانت له بداية أم لم تكن، ولهذا لم يشعر العديد من الفلاسفة الإلهيّين بأيّ تناقض بين تبنّي نظرية قِدَم العالم وأزليّته وأبديّته من جهة وبين فكرة الله وحاجة العالم (القديم) إليه.



ما أريد أن أشير إليه هو أنّ بعضنا قد يتصوّر طريقاً واحداً لإثبات وجود الله تعالى، وعندما يجد أنّ هذا الطريق لا يُثبت وجوده تعالى فإنّه ينكره سبحانه، مع أنّه كان من المفترض منهجيّاً أن نجيب في البداية عن السؤال التالي: ما هي الطرق الممكنة والمحتملة التي يمكنها أن توصل لإثبات وجود الله تعالى أو نفيه؟ وبعد ذلك نعمد إلى سلوك هذه الطرق، الواحدة تلو الأخرى؛ للنظر في إمكان إيصالها لنا إلى نتيجة، فإذا أوصلت إلى نتيجة مثبتة كفى، وإذا أوصلت إلى نتيجة نافية أمكن نفيه حينئذٍ، وإذا لم توصل إلى شيء اعتبرناه فرضيّةً ممكنة لا أكثر. أمّا حصر أنفسنا من البداية بطريق واحدة قبل النظر في الطرق الأخرى المفترضة والمطروحة على بساط البحث الفلسفي واللاهوتي منذ قرون عديدة.. فهذه مصادرة واستباق للنتائج.



2 ـ هذا إذا كنتم تقصدون من سؤالكم أنّ تقدّم العلوم الحديثة يلغي فكرة وجود الله، أمّا إذا كنتم تقصدون أنّه يلغي حاجتنا إلى الله تعالى حتى لو كان موجوداً، فالجواب أوضح، ودعني هنا أركّز على فكرة مهمّة يطرحها بعضهم اليوم، وهي أنّ الإنسان ما قبل العصر الحديث كان يواجه الخلق الإلهي في الطبيعة مثل النباتات والأشجار والأرض والثمار والحيوانات وغير ذلك، وهذه كلّها مصنوع إلهيّ، لهذا كان يستشعر فضل الله تبارك وتعالى عليه من خلال المطر الذي يأتيه بالنبات ويُبقي على حياة الحيوانات مثلاً، أمّا بعد تطوّر العلوم الحديثة، فقد وقفت الصناعات البشريّة حاجزاً أمام رؤية الإنسان لفضل الله تبارك وتعالى عليه؛ لأنّه صار يركب السيارات والطائرات والدرّاجات النارية والهوائيّة والقطارات، وكلّها مصنوعات بشريّة، فصار يرى حاجته للشركات المصنّعة وللدول المنتجة كي تستمرّ حياته في التنقّل والتجارة، وهكذا تنامت الأطعمة المصنّعة كيميائياً يوماً بعد آخر بحيث صارت كثير من المأكولات منتجة من قبل البشر في بعض المستويات، وهذا ما غيّب فكرة الله بوصفه صاحب فضلٍ على الإنسان وأحضر بدلاً عنه فكرة الإنسان الآخر الذي هو صاحب الفضل عليّ في بقائي ووجودي ورفاهيّتي وغير ذلك، وهذا هو عينه منطق نمرود كما يشير القرآن الكريم وتوضحه بعض الروايات، حيث جعل البشر يتصوّرون أنّ الموت والحياة بيده هو، والناس اليوم تشعر بأنّ قيمة وجودها وإمكان حياتها ومعنى بقائها إنّما هو بالتقنيّات العصرية التي استهلكت البشر وأحاطت به من كلّ جانب. يجب أن لا نستهين بهذا التحوّل المثير الذي أبعد فكرة الله عن مشاعرنا بوصفه صاحب الكرم والجود، ووضع مكانه تأليه الإنسان، لكنّ هذا ليس صحيحاً فبدون المطر والتراب والهواء والشمس والقمر لا يمكننا العيش، وبدون المواد الأوّلية لا يمكننا التصنيع وغير ذلك، فتطوّر العلوم وإن ترك أثراً هنا لكنّه أثر نفسي وهمي علينا الاشتغال على تبديده، وتوحيد الله لا يكون إلا باعتباره صاحب الفضل علينا ولا قوام ولا حول لنا إلا بالاستعانة به، فهو الذي يعيننا عبر الجماد والنبات والحيوان والإنسان الآخر.

المجيب: الشيخ حيدر حب الله

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More